Friday, February 27, 2015

“صفيح” يتسع بالحب


(أختلف معها [ أمي ]  في نهاية القصة التي نعيش، تريد أن نبقى كي نصنعها، وأنا أريد أن نخرج وننساها، نخلق قصصاً كل أوراقها حياة، والانتظار فيها قليل جداً)
- من “صفيح” هنادي الشمري ص 61


تشاغبني النفس بالسؤال قبل اختيار عنوان ورقتي عن: “التجنيس” الأدبي في الرواية المعاصرة وتداخله؛ وماذا يعني المهمش من تقييد جنس إلى فكرته؟ ولماذا يعتني بذلك أصلاً وأفكاره وأحلامه وشخوصه الحقيقية والمتخيلة تقع في ضفة أخرى من الأرض والحياة؟ هنادي اختارت أن تلامس التجربة بأصابع من حريق. 


الصورة هي أداة الشاعر وهي ناقلة الشعر، وهي في الوقت نفسه عمود السرد.. ولكن الجوهر في الشعر ليس في الصورة الشعرية، بل في التأثير الذي ينتج عنها.. أما في السرد فالصورة هي الأساس.


يقول رامبو (اكتشاف ما لا يعرف، يفترض أشكالاً جديدة) ويقول أدونيس: (كل جزء منها/القصيدة/ يأخذ معناه من الكل، ويعطى معناه إلى الكل)


هل كان دور الشعر هو تعزيز دور السرد في (اكتشاف عالم لم نره ولم نشعر به أبداً) كما يصف أدونيس دور القصيدة الجديدة؟

مدخل ثان:


تعد الرواية القصيرة، أو القصة الطويلة، والتي اشتق اسمها من الكلمة الإيطالية نوفيلا -وتعني الجديدة- جنساً أدبياً عائداً إلى الظهور في المشهد الأدبي. وقد أعطى النقاد والأدباء سمات للرواية القصيرة؛ فهي أطول من القصة القصيرة وأقصر من الرواية، لا تزيد عن 100 صفحة، وكلماتها عن 000 70  كلمة.

وتعود فكرة سلسلة الروايات القصيرة إلى حكايات ألف ليلة وليلة العربية، والتي ظهرت في القرن العاشر الميلادي، وانتقلت إلى إيطاليا في منتصف القرن الثامن عشر.
وقد اعتمدت الرواية القصيرة في بدايتها على الأحداث المحلية، والقصص الشخصية، ولكنها بعد ذلك تطورت وأصبح لها أبعاد إنسانية، وأدبية. 

ومن أهم الروايات التي صنفت كروايات قصيرة

- التحول لكافاكا 
- مزرعة الحيوان لجورج أورويل 
- قلب الظلام لكونراد  
- الشيخ  والبحر لهمنجواي 
- دكتور جيكل  والسيد هايد لروبرت ستيفنس 
- الموت في البندقية لتوماس مانس 
- وداعاً لفيليب روثس 
- يوميات من تحت الأرض لديستوفسكي 
- أوراق إسبرن و دورة برغي لهنري جيمس

ونادراً ما تنشر الرواية القصيرة كرواية مستقلة حيث تجمع عادة مع عدد  من الروايات القصيرة أو مع قصص قصيرة منوعة للمؤلف ذاته.
ومن أمثلة الرواية القصيرة الحديثة كتاب الكاتب الأمريكي ستيفن كنج Steven King الفصول المختلفة والذي  تضمن  أربع روايات قصيرة اتسمت بالواقعية، وحققت شهرة عالية حيث عرف كنج ككاتب روايات رعب. وقد تم اختيار روايتين منها لتمثل في السينما.

وبالرغم من أن الرواية القصيرة اشتهرت في عدد من  دول أوروبا كجنس أدبي ، بقيت  محدودة الانتشار في بريطانيا  وقد يعود السبب إلى أن القارئ الإنجليزي يفضل الروايات الطويلة.
تتقاطع الرواية القصيرة مع الرواية الطويلة في مسارات معينة وتختلف عنها في مسارات أخرى  وتتمثل الاختلافات بينهما فيمايأتي:

- الرواية القصيرة لا تحتوي فصولاً وإنما صفحات  تحمل عناوين تمثل مدخلاً إلى أحداث الرواية.
- لا تحمل الرواية القصيرة تطوراً تفصيلياً  في الشخصية والحبكة.
- الرواية القصيرة تحمل عقدة صراع أقل من الرواية الطويلة. 
- غالباً ما تهتم الرواية القصيرة  بتطور الشخصية، وعواطفها أكثر من المجتمع الذي يحيط بها. 
- لا تظهر في الرواية القصيرة الحبكة الثانوية التي تظهر في الرواية الطويلة. 

ظهرت روايات قصيرة في العالم العربي منها قنديل أم هاشم ليحيى حقي ، واتجه كثير من الكتاب  المعاصرين  إلى أن يكتبوا روايات ذات حجم محدود (مثل نجيب محفوظ ، وسليمان فياض ويوسف إدريس).

الرواية القصيرة أو النوفيلا، التي تقع في منطقة وسطى بين الرواية والقصة القصيرة، بقصد التعريف بهذا النوع وإبرازه وتفريده عن النوعين المجاورين، اللذين حظيا بدراسات نظرية وتطبيقية أسهمت في إيضاح حدودهما، وفي الترويج لهما، وتسهيل التعامل معهما، أما النوع الثالث فقد ظل إلى اليوم نوعا غير معترف به إلا في حدود ضيقة، ولذلك فإنه مجهول عند جمهور القراء والنقاد والكتاب والناشرين، وأما الأعمال العربية التي تنتمي فعليا إلى نوع النوفيلا فغالبا ما تلحق بالرواية أو بالقصة القصيرة، وقلما تنال تصنيفا مستقلا يسمح بقراءتها ضمن نوع سردي ثالث يمتلك عناصر كافية لإثبات هويته وخصوصيته.


ذكر الشاعر والكاتب الأمريكي هاوارد نيميروف (Howard Nemerov) في مقالة بعنوان (التكوين والقدر في الرواية القصيرة) «إن هذا الشكل الفني لا يجب أن يعدّ شكلاً فنياً يجمع بين الرواية والقصة، ولكنه يجب أن يعد شيئاً مثل الشكل الفني الأولي والمثالي، وهو متصل بطريقة موحية بالتراجيديات القديمة فيما يخص بساطتها». 

وبتطبيق تعريف الدكتور أبو المعاطي الرمادي في أطروحته لدرجة الدكتوراة للرواية القصيرة على عمل هنادي الشمري، نصفها بأنها ذات:
  • حجم متوسط (لا يزيد عن مائة صفحة من القطع الصغير).
  • استهلال ذو طبيعة خاصة؛ بسبب اعتمادها على شخصية محورية واحدة، وحدث محوري واحد، ويتميز بشيوع الحس الكوميدي، أو التراجيدي، والتأريخ للبطل والمكان (سعدون/تيماء).
  • لغة مكثفة تقترب بالسرد من الشعر.
  • ازدواجية الدلالة، فالكاتب لا يصرح بل يلمح، ويترك الكثير لعقلية المتلقى الاستشفافية، ودائما لسرده أكثر من دلالة.
  • بطل محوري واحد. هنا كان البطل هو “سعدون”.
  • حدث مركزي واحد: تقوم الرواية القصيرة على حدث مركزي واحد يستقطب كل مكونات العمل (حالة المناطق الشعبية وهجرة البطل)
  • وجهة نظر خاصة للواقع: وهذا تمثل في تحويل مدركات الواقع البسيطة إلى فعل مرئي محسوس، وتغليب المألوف واليومي والنادر والثانوي على الأساسي والمباشر.
  • وصف موجز فعال.
  • ملمح السخرية: من العلامات المميزة للرواية القصيرة ملمح السخرية، ويكون أحيانا بأسلوب الاستفزاز، وأحيانا بالرسم الكاريكاتيري، وبالمواقف الكوميدية، والتعليقات المضحكة. الأمثلة كثيرة في الرواية (داخل وخارج الرحم.. مهبل البلاد ضيق جداً.. طين يجاور طين.. غرفتي وبيت الله من مادة واحدة.. البشر قطع غيار جديدة في آلة زمن معطلة.. العتبة؛ فائدة رياضية وفائدة أخلاقية.. لو استرسل جدي سنكون من أهل الكهف.. جدتي متدينة تخرج الأموال للأموات قبل الأحياء.. هناك تقع الجنة، في زاوية فم أمي لا تحت قدميها.. قلب والدي بركة صغيرة.. الخ)
  • فضاء خاص يتسم بالمحدودية، يستمد رحابته المكانية والزمانية من القفزات والوثبات الناتجة عن توارد الخواطر. (لم تسهب الكاتبة إلا في وصف الحالة الداخلية لتيماء وأهلها وجوارها ورغم الانتقال أجواء الحكاية إلى لندن، كان وصف الشمال عاما.)
  • إثارة الأسئلة : النص الروائي القصير يثير كما من الأسئلة دون الاهتمام بطرح أية إجابات . ( لماذا أرفض الحياة وأنا أملك قدمين؟ ماذا يحتاج الأموات؟.. الخ)

تكثيف الصدمة وإشراق الكلمات:


أجرؤ على الزعم بأن هذه الفرجة المعرفية المسماة “صفيح”، ليست فقط هي التجربة الأولى لهنادي الشمري أو التجربة السردية الأولى لكاتبة من البدون. أكاد أجزم أن هذه القراءة المجردة للعمل لن تفيه ولا الكاتبة حقهما في الإشادة بهما في حقل التجربة الإبداعية التي تتجاوز معانقة نوع من الكتابة السردية يوصف بالجدة ولا اشتغال فكري يتسم بالجدية. بغض النظر عن صاحبة العمل وظروف المرأة القاسية في مجتمع يعاني على هامش المجتمع - وإن كانت هذه الظروف القاسية تزيد في إعجابنا بالإصرار على إنتاج مثل هذا المنجز. “صفيح” هنادي الشمري.. هي التجربة الأولى والعبارة ناقصة ما لم نضف لها أنها التجربة التي أسهمت في تشكيل المناطق الشعبية من الداخل.

كان من الممكن لهنادي أيضا أن تعمل وفق  الظاهرة السائدة والبدء بكتابة القصة القصيرة استسهالاً إما في الكتابة أو القراءة أو النشر، أو مباشرة حوت الرواية واستثمار مجالها الواسع الرحب لابتلاع أنواع متعددة، فلا مشاعر بالنقص مما نجد هنا أو أدوات لغوية وفكرية يمكن أن تخونها لبناء قصصي متميز كما أزعم، ولكنها اختارت النوفيلا، هذا الشكل المعاصر والثائر والشاق ذهنيا كجواز عبور إلى القارئ. كما أن قبضتها الحديدة على الحبكة الروائية ومركزها حال دون تشظي السرد على الورق. هذر وفضفضة تعاني منها بعض الروايات المحلية متضخمة الصفحات التي كان يمكنها بقليل من الاختصار أن تصبح أكثر رشاقة وأشد إبهاراً. هل كان للنص الشعري دوراً في تقليم عباءة الرواية عند هنادي الشمري؟ لننتظر ونرى.


صفيح صدرت في نوفمبر ٢٠١٤ عن دار مسعى للنشر والتوزيع في ٩٥ صفحة من القطع الصغير. نوفيلا في ١٣ فصلا - العدد المحبب لكتاب القصة- كل فصل منها يشكل وحدة عضوية بحد ذاته إذا استل من الرواية- ختم كل فصل منها بنص شعري.

مفاتيح الزمن:


الحياة لا تقاس بمتر الخياط أو بميزان البقّال. السرد احتفاء بالزمن ومحاولة لتلمس آثاره على الذات والأشياء. يقوم العمل السردي بتصريف مشخص لكميات زمنية لا يمكن إدراكها إلا من خلال “الحكي”. 

القصة خلت من الرؤية الحكائية طويلة النفس، لسبب واضح ذكرته الروائية في الاستهلال الذي عبر في المقدمة وسأعود إليه في التعليق على الهامش الشعري للفصول. لكنها على الرغم من ذلك امتلأت بالتأمل والرصد الاستكشافي للحياة والعلاقات. حققت ذلك في مسارات متعددة؛ بما يخص التعامل مع الاكراهات الفنية (البناء والزمن والأسلوب والفضاء) وضوابط العوامل الدلالية وانسجامها. غايتي، ما لا يقوله النص، أو يقوله في غفلة من الكلمات ونواياها الواضحة المباشرة الصريحة. هذا النص الموازي أوسع من قصديات “هنادي” وتعدد الأدوات المستخدمة (الاستعارة من التراث ومن النصوص السردية العالمية بالإضافة إلى الشعر) هو تعدد للمعاني بقصديات النص.

الطاقة الانفعالية لا يمكن أن تتحول إلى إبداع إنساني. الفن انفلات من الانفعالات الشخصية، وهذه رواية قصيرة تقتحم التاريخ، ولن يتأتى لها ذلك بالاستناد إلى الأحقاد الصغيرة والانفعالات المصطنعة.
أين تخبئ الكاتبة مفاتيح “صفيحها”؟ ربما في بندول الزمن المتأرجح ونسيء فبراير .. اليوم الكبيس الذي لا يتكرر إلا مرة كل أربعة أعوام والذي ختمت به الرواية وفي خيالات الشعر وربما في اسم بطلها الرئيس وأخيه (سعد وسعدون.. ومقترحات الأخوين لما يمكن أن تضعه أمهما من أسماء حالمة).

المرأة في الرواية:


المرأة لا يمكنها تجاوز فرادتها في العمل، (ليلى الصغيرة، إيمان، الأم، الجدة؛ مغيبات الأسماء) كل امرأة أو فتاة هي قصة مختلفة، تواجه تحدي إلغاء الذات وفرض الصمت. ونساء الصفيح كن متفردات بشكل واضح رغم الطبيعة الرتيبة للمجتمع السائد.

نوفيلا شابة برداء صيفي قصير:


إذا كان الشعر مذكراً والرواية مؤنثة.. فإن نوفيلا "صفيح" شابة برداء صيفي قصير.. تزيّن شعرها بنصوص الفتنة.
كان الشعر عبر العصور ثورة في زمنه، وشعر الحداثة ثورة خالصة في زمنها.. فهل كانت الكاتبة، حينما لجأت إلى السرد، تخفي بطل ثورتها في عباءة الرواية القصيرة دون أن يثير الانتباه؟ هل لجأت إلى هذا التجديد إعمالاً في الثورة عمداً. هل كانت تعمد إلى حمايتنا من قتامة الصورة؟

الشعر، ضابط اللغة والإيقاع:


في البدء كان الشعر.. سحر الكلام. يقول أبو هلال العسكري إن من حق الشعر أن تكون ألفاظه كالوحي وأن تكون معانيه كالسحر. صوت الذات الإنسانية المعقدة المتقلبة في عوالمها الواقعية والتخيلية، وهو نفسه موضوع النثر وخصوصا السرد القصصي الذي يتميز بالخوض أكثر في التفاصيل الجزئية وعلاقاتها بالعالم الخارجي، إذا كان الموضوع المعتمد أو المادة الخام نفسه فما الذي يسمح للشعر بتكسير الحواجز ويقف بالسرد دون ذلك؟ الرواية معرفة، وفق وظيفتها التواصلية، ولكنها لا توضع بشكل مباشر على لسان الشخصيات. هي رؤية تخص نسج العلاقات الإنسانية والأشياء. تجسيد فضائي وزماني للمعنى الذي لا يوضع عارياً على شفاه الشخصيات. الشخصيات التي رسمت لنا تحت الصفيح كانت حقيقية. وإن كان الفعل السردي تصريفاً مشخصا -كما أسلفنا- لكم الخيبات والآلام تحاول الروائية أن تلقيها بسلاسة للتجاوز الحر، هنا وجب على أن تؤثث “هنادي” روايتها بالشعر الذي تسرب في إضافة تصوير مغاير ورؤية وصفية ودلالية مغايرة تعزيزاً للصورة الجمالية. الفعل السردي هو الرؤية الشاملة، بينما الأثر الشعري هو الرؤية الخاصة. رؤية مفتوحة، متنفس للآلام، لجوء شعري يصاغ خلالها المتخيل ويستقيم، تنطلق من خلاله العلاقات الإنسانية إلى آفاق أرحب. دون الغوص في ملامح الملحمة الخالصة. في النهاية، من منا يريد لقضية البدون أن تطول حتى تصبح ملحمة البلاد؟


يرى أدونيس أن الشعر هو رباط خلاق بين الحاضر والمستقبل، الحضور والغيب، الزمن والأبدية الواقع وما وراء الواقع.. السرد يعطي رؤية لهذا العالم والشعر يعطي صورة مختلفة.. فهي تعتمد على الخيال المنبثق من الفهم والرؤيا المختلفة للعالم.. في عملية التشكيل الداخلية، لكان لذاتية هنادي وقدرتها على الصياغة، والتعبير دور حاسم، فأسلوبها السردي ذو النبرة الشاعرية ونباهة الوصف والوعي بالتفاصيل والمشاعر الداخلية في السرد إضافة إلى الارتقاء إلى لغة الشعر العالية والمفتوحة في نهايات الفصول نقل العمل إلى مدار يختلف عن وصفه “تجربة” أولى إلى تجربة جديدة. بقدر تكثيف أحداث الخطاب، بقدر ما يقترب من سمات القصة القصيرة، إلى الدرجة التي يمكن أن يكون كل فصل قصة قصيرة قائمة بذاتها، إلا إن الترابط الداخلي حفظ شكل الرواية الخارجي. ورغم تنوع الأحداث، إلا ّ أنه يغلب عليها الاقتضاب واختصار المسافة، ومساحة تفاعل شخوصها مع تقنيات سردها الأخرى، فكما تتفرع الأحداث بسرعة ملحوظة، تتطور كذلك بسرعة واضحة.

البنية السردية في الرواية التجريبية (أكذوبة صفاء النوع):


لا بأس من العودة بالإشارة إلى الميزة الأصيلة في العمل الأدبي. وهي أن الكاتب مطالب بأن تكون له قدرات خارقة وغير عادية تمكنه من إعادة تشكيل اللغة ليعلو عن المستهلك، ويتجاوز التركيب إلى الصياغة والتعبير.

التميز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا، فالحدود بينها تعبر باستمرار والأنواع تخلط أو تمزج، والقديم منها يترك أو يحور، وتخلق أنواع جديدة أخرى إلى حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك). ويعد الفيلسوف الهيجلي الإيطالي بينيديتو كروتشه من أوائل الذين عملوا على التقليل من وظيفة القواعد الكلاسيكية المعتمدة في الفصل بين الأنواع لأن الأهم بالنسبة للنص الأدبي روحه التي تنبض بالتجدد والاستمرار، ويرى (كروتشيه) أن الحالات الفريدة من المبدعين العباقرة تحتم كسر الحواجز لإعطاء شرعية أدبية للنص المتميز الذي يصعب التفريط فيه، وإن خالف النظام الكلاسيكي المعمول به في نوع سردي معين.
ما من أحد يجهل أن التاريخ الأدبي مملوء بالحالات التي يخرج فيها فنان عبقري على نوع من الأنواع الفنية المقررة فيثير انتقاد النقاد، ثم لا يتمكن هذا الانتقاد أن يطفئ إعجاب الناس بهذا الأثر العبقري، فما يسع الحريصين على "نظرية الأنواع" إلا أن يعمدوا إلى شيء من التساهل فيوسعوا نطاق النوع أو يقبلوا إلى جانبه نوعا جديدا، ويظل هذا النطاق قائما إلى أن يأتي أثر عبقري جديد فيحطم القيود ويقلب القواعد.
هناك علاقة وثيقة بين النوع والنص الأدبي كما تتضح أيضا الطبيعة الدياليكتيكية للأنواع الأدبية، فالأعمال الأدبية التي تشترك في سمات معينة تكتسب تدريجيا أحقية الانتماء إلى نوع معين، فالنوع إذن هو نتيجة تراكمات سردية تشكل نظاما معينا لكنه قابل للتغيير ضمن الحركة التاريخية.

ولكي يكون الفن مجدداً يجب أن يكون مختلفاً. كل نص جيد يحمل إضافات وانحرافات جديدة قد تتقاطع مع خصائص أنواع أخرى، مقولة النوع الخالص نافية للإبداع، لا تصلح لطبيعته المتجددة، مما يؤدي إلى ولادة أنواع هجينة تحمل خصائص أكثر من نوع أدبي، وما القصة الطويلة (النوفيلا) إلا أحد هذه الأنواع الهجينة التي تنبع هويتها من طبيعتها المتداخلة، ومن نسيجها الذي تحكمه تقنيات القصة والرواية معا. أو التي تستخدم تقنيات السرد بطريقة مغايرة مما يشيع في القصة والرواية. هنا السلطة للنص وصياغته وقيمته ومحتواه، لا للنوع الخالص الذي ينتمي إليه. أو لا يمكننا التساؤل: أوليست الرواية نوعاً "هجيناً" بحد ذاتها؟ هل هناك من ينكر وجود النص الشعري في الرواية حتى ينكره في أي أنواع القصة؟ هل تتحول الرواية الشعرية بالكامل إلى "ملحمة شعرية" بمجرد عبور عتبة اللغة العالية؟

مدخل أخير:


لم ننته بعد من قراءة هذا الجنس الأدبي، وحتما لا تكفي القراءات الانطباعية والنقدية التي تناولت هذا العمل. هذا العمل بصمة في عالم الرواية القصيرة يستحق دراسة أكاديمية ونقدية جادة بقياسه إلى الأعمال المجاورة، ومتانة السرد والنصوص الشعرية فيه. هو، كذلك، عمل وضع هنادي الشمري في سلسلة السرد النسوي في الكويت ومن أوائل الروائيات بين الكويتيين البدون. بهاتين العينين يجب أن يُرى ويُدرس هذا الأثر.

ــــــــــــــــ
قراءة في الرواية القصيرة "صفيح" للروائية والشاعرة هنادي الشمري قُرئت في ملتقى الثلاثاء الثقافي بتاريخ 24 فبراير 2015.

دومينيك دوفيلبان ومابعد الكولونيالية

 سكرت أوروبا واسكرتنا في 70 عاماً الماضية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية والتدريب والتشبيك مع جنيف ونيويورك ولاهاي. هذ...