سكرت أوروبا واسكرتنا في 70 عاماً الماضية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية والتدريب والتشبيك مع جنيف ونيويورك ولاهاي. هذه الفكرة التي سعت إلى تغييبنا عن احتلال الجزائر وقهر ليبيا واغتيال لومومبا وحرب الكونغو وسواها. جهود سنوات شطبتها فلسطين الباهرة في أسبوع واحد فقط!
أوروبا العجوز التي ضعُفت على السلب والنهب والدمار جرت الدماء في عروقها فجأة عندما استصرخها الصهاينة، ظفرها الكولونيالي في المنطقة، فنبتت أنيابها بسرعة، وهذه أيام تذكر كل من نسي العدوان الثلاثي كيف تجتمع الذئاب على الطريدة، وإلى اللحظة لا يستطيع أحد في العالم الغربي إدانة وحشية الكيان الغاصب وإجازة حقوق الشعوب في المقاومة وتحرير الأرض بكافة السبل وتقرير المصير وإدانة المستوطنات. قيم بسيطة وردت في أكثر من 140 قرار أممي يدين الصهاينة. جوهر المسألة أن مغتصباً سابقاً لا يمكنه تسويق الغاندية. لا ينسى مصاص دماء طبيعته بسهولة.
ظهر دومينيك دوفيلبان ليطالب بإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة على أراضي 1976 في الضفة والقطاع، وعندما قاطعته المقدمة بالسؤال عن مستقبل المستوطنات في الضفة، أجاب بأن المستعمر في الجزائر أخلى مليون مستوطن فرنسي من أجل السلام، وهذا ثمن على الصهاينة دفعه.
دوفيلبان، الشاعر الديبلوماسي، ومرشح الرئاسة السابق، الذي عارض احتلال العراق سابقاً، ولد هو نفسه في الرباط، ويعرف المنطقة جيداً ولديه آراء بارزة أخرى، مثل قوله إن سياسات الغرب وراء تصاعد الإرهاب. رئيس الوزراء السابق يعرف -كما تعرف فرنسا- أن أدواتها الاستعمارية استنفذت في مسارح عدة، وجردتها الولايات المتحدة من كل ألاعيبها، ولم يبق منها إلا القوة الناعمة على الساحة الدولية. هذه القوة التي تسفح سريعًا في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. إفريقيا تحديداً ما زالت محل صراع "روحي" فرنسي -ربما لنشوب صراع امبريالي بينها والولايات المتحدة، وبزوغ صراع قوى مع روسيا والصين. فرنسا -ومثلها عديد الدول الأوروبية- تحاول تصدير القوة الناعمة -والعطور الفاخرة والمكياج الصارخ- إلى الشرق "الأدنى"، ولكنها ما زالت تناور في إفريقيا، وتقدم قدماً وتؤخر أخرى. وللسبب نفسه: لا ينسى مصاص دماء طبيعته بسهولة.
ولكن ما لا يعرفه السيد دوفيلبان أنهم دائماً ما يأتون متأخرين. حل الدولتين انتهى تحت أقدام المقاومين. الحرب الشاملة باتت تطرق الأبواب. ولا يمكن إنقاذ آخر بؤر الكولونيالية التوسعية في العالم من الأقدام الطارقة على أبوابها أو الخراب الذي ينخر قلبها. "إسرائيل لن تمضي قدماً".
سيد دوفيلبان، خطابك البليغ في الأمم المتحدة، وملايين المتظاهرين في شوارع أوروبا لم تمنع احتلال العراق. الديمقراطية فشلت. حقوق الإنسان دم معتق، وليست نبيذاً، ومن يريد أن يحميها عليه أن يجرد سيفاً أمضى من لسانه.
ربما كان من الأفضل لفرنسا أن تتواضع وتشرح جيداً للكيان المتمرد فكرة سارتر عن تحول الضحية إلى جلاد من واقع جاك ماسو وفرقة المظليين العاشرة في الجزائر.
سيد دوفيلبان، شكراً. لا شكراً. نحن نواجه مشاكلنا بأنفسنا. واجهوا مشكلتكم.
Dominique de Villepin