Tuesday, January 21, 2014

"الصهد".. رواية "البدون !


كلُّ عابرٍ إلى "صهد" ناصر الظفيري؛ وجد ما يغريه بالاتصال به. مَن توقف عند الكتاب الأول منه غمرته غابة المانجروف، وسحر الصحراء، وذئب الغريزة البكر. ومن انغمس في بقية فصول الرواية تجاذبته حبال الأواصر الإنسانية وتلاحق الأحداث في حبكة درامية - حديثة - لا تغيبُ عنها الإثارة منذ الدهشة الأولى. لقد تميزت رواية "الصهد" بمهارة التشكيل الفني وبناء الأحداث. إنها عمل كُتب عن مجتمعٍ محلي بحبرِ العالم... وبأصابع الجنيَّات.

شخصيات عدة تناوبت السرد بوقع رشيق، وظّفها "الظفيري" ليعبِّر عن اختلاف منظور الأجيال للظواهر الاجتماعية والسياسية. وكل شخصية منها أخذت حقها في إضاءة شيء من هذا الاختلاف. مفارقات ساهمت في "تجديل" ضفائر الرواية ونسج عباءة أفكارها. كما تناوب الإيقاع في فصولها - بين البطيء المكثف الذي غالبا ما برز في الكتاب الأول، والسريع في جزئها الثاني - تبعاً لميزان العصر وتسارع الأحداث اللاهث أحيانا؛ كما في ختام الرواية، وكأن الراوي أراد أن يرمي بقلمه ويفرَّ من برودة الفقد وحرارة الدموع. كل هذا رسمَ فضاء النص وإيقاعه الكلي في موسيقى متناغمة، ربما ساعدت قراءه على الاشتباك مع الرواية حتى "منجل" النهاية.

اجتهد "الظفيري"، وهو يستعرض الأحداث التاريخية، أن يلبس ثوب الحياد، فقدم أكثر من شخصية تتعدد رؤاها السياسية والاجتماعية والدينية، مجتهدًا الابتعاد عن الخطابة الأيديولوجية ولغة الناطق الرسمي، ملتصقا بالرؤية الفنية الخالصة وعناصر التشكيل الجمالي، وإن كانت الرواية - في بعدها التاريخي - تطرح بعض التساؤلات من باب علاقة الفرد "البدون" بالمجتمع والأحداث التي تدور حوله.

من أي الأبواب يمكن لنا الولوج إلى عبارة: "الصهد" رواية "البدون" ؟!

الاحتمال الأول البسيط للعبارة، والفكرة المباشرة فيها، هي أن الراوية الرئيسي ومركز الأحداث في أغلب مفاصل العمل كان شخصية من البدون (شومان، علي، ليال... الخ).
والاحتمال الثاني، هو "الفكرة التأسيسية" التي تطرحها "الصهد". وهنا نحتاج شيئا من التفصيل. ففكرة الوطن والانتماء والمنفى والغربة وأزمة الهُوية، وحتى الامتدادات الثقافية في الكويت؛ كلها غير متفق عليها. فكل مجموعة من المجاميع التي تشكل "أهل" الكويت لها تاريخها الخاص وجذورها الثقافية الخاصة التي ترسم رؤيتها للتاريخ المَحكي، وهو ما لا يتفق بالضرورة مع التاريخ الرسمي، أو المدون منه.
كل هذه المجاميع؛ كان لها دور معين في تاريخ البلاد، يتمدد وينكمش وفق أمواج السياق، وبناءً عليه تورِّث أفكارها إلى مستقبل أبنائها. وهذا أول مفاتيح فك المشهد الوطني، وطرح الرؤى والأفكار حوله؛ من زاوية أبطاله ووجهات نظرهم.

"الصهد" تنقل "البدون - العضوي" من هامش المشهد الوطني إلى صلب المركز، وتبني حوله الأحداث. فلا يكون فيها مجرد عنصر مكمل لعناصر القص بحكم الواقع، كما في روايات متعددة لامست وضعه من ناحية أو أخرى وفق حبكتها الدرامية. أعمال ربما اتكأت أساسا على النسب الإحصائية الملتبسة لتعداد البدون السكاني وتأثيرهم في المشهد الكويتي العام!

بينما يحضر في "الصهد" كامل المشهد الاجتماعي والسياسي والتاريخي، ولا يغيب "البدون" عن أي من سياقاته. وتتعدد فيه مواقف الشخوص الممثلة لأفكار متنوعة ضمن الهُوية "البدونية" الشاملة يسهل معها تعقب نماذج السلوك وطريقة الحياة. 

"البدون" في "الصهد" ثابت في بؤرة السرد وفي كل مستوياته الأخرى. أي أن للبدون سردياته الخاصة التي لا علاقة لها بموقفه السياسي أو مكانته الاجتماعية أو الاقتصادية، ولا بعشقه أو بغضه لفكرة الوطن أو محيطه المجتمعي. ولا حتى "جنسيته" ! فكلنا "بدون" بشكل أو بآخر، وكلنا منفيون لسبب أو لآخر.

إذا اقتنعنا بهذا المستوى من فك رموز الرواية، يمكننا أن نسقط بسهولة شخصية "ليال" (البدون) على رمز الوطن الشاب الذي يفتش عن أحلامه وهُويته وكيانه الحر، ويتلقى الصفعات والخيانات والاغتصاب والامتهان في كل مرة. حتى انتقامه الصغير كان ناقصاً... حلم لذيذ يغيِّب عن وعيك - وأنت تولجه القبرَ - التيقنَ إن كانت تلك مقبرته الصحيحة! ونقتطع لـ "ريما" (الفلسطينية) حصتها من القضية إذْ تقول: "أنا مجموعة أوطان تتقاسم إنساناً، وتتجاذبه، دون أن يكون له أدنى إرادة أو رأي في اختيار مكانه".


----------------------------------------------------------
نشرت في آراء بتاريخ:
21 / 1 / 2014 



دومينيك دوفيلبان ومابعد الكولونيالية

 سكرت أوروبا واسكرتنا في 70 عاماً الماضية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية والتدريب والتشبيك مع جنيف ونيويورك ولاهاي. هذ...