Tuesday, June 12, 2012

إخوة يوسف

عن الذين لم يتركوا رمل الساحة يعرق وحيداً.. ولم يدخلوا في دين الذئب..

| محمد السالم |   

@Mohd_AlSalem



يطبق الباب المعدني بقوة ويسدل المزلاج بعده بحركة دائرية من الخارج تنقلب معها الذاكرة بطناً لظهر وتسكب بين أودية الجبس الأبيض الممتد بين ثنايا بلاط البورسلان البارد كأنهار بلا جدوى، هذه هي الصورة وهذا الصوت الذي يرسم عشرة أيامك القادمة. أحفظها وأعود بقوس الذاكرة إلى الأول من أيار.



اجتمع الفقراء في اعتصام كابن زنا لا أب له، غاب عنه الكبار خجلا وحضره الأبناء سداداً لدين العمر المنحور. في مفتتح أيار السنوي يتعاضد عمال الأرض لتحسين شروط العمل، بينما يجتمع الكويتيون البدون في محتفل هجير الصيف بطف تيماء لينزفوا سؤالهم المر: ما العمل؟ ماذا يمكن أن يُعمل بنا بعد؟ هل نترك رمل الساحة يعرق وحيداً؟

كانوا القلة، أقل من القلة، القلة التي بالكاد تقيم الفرض بهذي الأرض، القلة التي تغري بالفتك الناجز.. كان هنالك من يضحك وهم ينسلّون فرادى من وراء أحزمة البؤس ليفروا سراعاً إليها.. اليوم هو اليوم، من تولى فلا مولى له بعد اليوم وستبرأ منه أمهات الثكل، ومن سيلي الفرجات بين شقوق «الشعبي» هو سيد النار والحديد وهو القيامة.. هجم الباغون على الفرض الناقص بلا دروع، هجموا لأن رائحة نحور الأطفال اليوم الأشهى، افتضوا بالأيدي والأرجل والأنياب فيعقوب اليوم أعمى ويوسف بلا قميص.. ومن نكد الدنيا: كلما زاد الكيد، مدّ «حسينٌ «يده للقيد.. مد حسين ومد معه إخوته أيديهم إلى النور فهذا الليل الحالك في وطني يسكر بندرة النجوم. 

جُمِع القيد لهم، شدّ المنتشون بخمر القوة قيد الإخوة مرارا.. أحصوهم.. قلّبوا في وجوههم تكرارا، بصق القفل خلفهم، وعند «مخفر تيماء» كان إخوة يوسف خمسة عشر صديقاً.. هذا كثير على السجن، فتح الباب خلسة قرب جهنم، ترك الإخوة وحدهم علهم يختارون الريح فيخف الوزن، فكلما ازدادوا ضعفا فرح الذئب، ولكن إخوة يوسف حفظوا الدرس، لن تذهب وحدك للبئر.

في الغرفة الضيقة اختنقوا بحلم الوطن، هواء الوطن هنا الأصدق! وُثقت أسماؤهم إلى بعض، عجنوا قبل الصهر، يشبهون وطنهم الآن أكثر.. في الغرفة الضيقة: ابتسامة صغيرة وحلم كبير.

شدوا إلى بعضهم أزواجا وأفرادا.. لا يهم ما داموا لن يفترقوا.. يصعد السؤال الهامس: أين صار «حكيمنا»؟

يغربون في قافلة السبي شرقاً.. وهم غنيمة الليل.. الباص المنتفخ بأحلامهم تأخر كثيراً.. حديث جانبي كثير عن هموم صغيرة تسير بالركب: محفظتي، نقدي، مفتاح سيارتي، أخي، طفلاي.. أمي.

تغرب أسلاك النور فيشرق الوجد في النفوس الغريبة، تلتصق الأرواح المشربة بحزن الليل المتثاقل في الباص الكسول. تبدو الرحلة من ساحة الحرية إلى السجن هي الأطول كتاريخ تعسر به الكتابة.

الترحيل: حبال الليل تلف رقاب المنفيين.

إخوة «يوسفنا» ما اكتالوا يوما وما وفّيَ لهم سوى القيد؛ حبسوا في الكراريس، حبسوا في صدور الكافلين، حبسوا في ماضي الأجداد، حبسوا في الدرج السفلي لمسؤول متخم إلى جنب أحلامهم.. يستوفون الحبس الآن في المطبق* الأعلى لسجن الجنايات الكبرى! وما الجناية الكبرى؟ (صداع) الملك!!


Image from I. Piccioni-A. Tiso/Molo7 Photo Agency

سجل الأحوال
هل هي الصدفة أن لا تتشابه الأسماء وتتماثل القلوب كمرايا القصر؟ هل هي الصدفة؟ هل هو القدر؟ أم هو الحظ والحظوة؟ فصول أخرى حبلى بالإجابة لزمن لم يبعث بعد.

ناصر
هل يلتصق اسم بصاحبه كهذا؟ ناصرُ إخوته دفع عنهم مراراً ولكنه آثر -وهو ابن الوطن المكلوم- إلا أن يشاركهم بؤس الرغيف حين أفردهم جوع الأرض، اعتمر الراية الوطنية وحضر بأجمعه.. لم  يغدر أو يغادر.

ابهيّـان**
نقطة متثاقلة تصنع الفرق، هذا البهاء الحسن ينفي ما عداه.. يفتت القيد. ابهيان كان نهيّان مرة واحدة حينما أبى أن يترك «العزيز» يمضي وحيدا. منذ اليوم الأول أعلن البشارة: سنخرج حتما، ينبغي أن نعد أهزوجة للمناسبة!

حسين
معكم لا مع غيركم، أمامكم لا خلفكم، بمرارة الحرف الحزين لفقد أخيه، وتوق الغريب إلى ضريح بعيد لـمَشوقٍ.. يزيّت القلب في محطة انتظار.. السجن يصهر الحزن أكثر.

شعلان
تاريخ شريف هذا الذي كتبك أيها الفارس قبل أن تكتب فيه بقية الحكاية. يا من أشعلت السجن حكايا لرجال أذلوا أنوف الدنيا ولم ترتض أرواحهم إلا المجد. كيف لا تكون كبيرا؟ 

زبن 
من أعمق الصحراء يبزغ مدّرعا بكل فروسية الرجال.. بمرارة القهوة السمراء في عزمه.. وبرائحة الهال في منطقه.. أما هم فينظرون رأسك الكبير ولا يرون ما يخفيه من روح أكبر.

عيد
كنت أقول لهم: كان لدينا «عيد عجيل» واحد، فأصبح لدينا اثنان، لدينا الآن «عيدان» و «عجيلان».. قد انفلقت النواة وأخضر البرعم وقرب القطاف.
عيد نسي في اليوم الأول نشيده الأبهى.. لم يطل به الأمر.. في اليوم الثاني كان يقودنا جميعاً لننشد من خلف القضبان وراءه: سوف نبقى هنا.. كي يزول الألم.. يا هذا وكأنه كلما أنشدتها تمدد حبسنا يوما إضافيا !!

عجيل 
قتلني -هذا الشاب حسن الصوت سائق «الوانيت» البسيط ابن الشعبيات المسكون بأطفاله المحرومين من لهوهم قرب شاطيء الخليج- لما طلب إليه التوقيع على ورقة إخلاء سبيله فأجاب: لا أعرف! أنا أبصم.

عزيز 
خُلق ملك.. لم نسمع له كثير قول.. حتى اذا بث همه بعد انجلائه وانقضاء الأسوأ من أيامه.. جاء سرده نبيلاً كمن يقول إجمالاً ولا يقول حتى لا يضيق قلبك بما تسمع.

فهد 
هذا الفتى لم يولد بعد ! نعم، فهد درس ولعب وصادق وأحب وصارع وضرب، فلم يجد إلا أصغر إخوته ليدفع عنه كما شاهدته الدنيا لأنه وبكل بساطة.. فهد-هذا الفتى المبهور بالأحلام- لم يولد بعد!

فواز 
آه، هذا صوت جميل آخر وشاعر فذ.. يريد فسحة الأمل.. أي منصة تكفي وإن كانت «صاجة» الإنفرادي.. هذا الفتى سيقول حتماً.

مشعل 
يتنافس مع صاحبه في الوداعة، ويغلبه في حُسنٍ يمشي أمامه.. هذا الفتى باسم وسيم قسيم فهل عميت أعين العذارى؟! صاحب السجن هذا لديه الكثير مما تغبطه عليه. 

ملحم 
ملحمة صبر وإباء.. كرم يخجل منه العطاء لولا ضيق اليد.. يذرع زنزانته وجداً لرائحة لا تجدها أمه المكلومة في صدر الدار الحرج إلا من أطفال حيرى. 

هادي
جئت وحيداً من فج عميق لتتم رابع التكبيرات لفرض الحرية. جئت تحمل الوعود المهشمة لآبائك الصابرين وأجدادك الطيبين بدائرة وطن لم يُجد بَنـّاؤه حتى مستطيل قبر.. نفذ بك الصبر.

يوسف
كسرت يده مرتين. لا يهم، كسروا قلبه أكثر. عندما يتحدث معك -بلهجته العجلى- تظن أنه يريد أن يجمعه، ولما يهدر ضاحكاً لا تعجب أن تهتز قضبان السجن لتصير أضلاعا لصدره... يسأل: من أي الطير أنتم؟ أما أنا فلا ترقى إلىّ غيومكم. 

محمد
يقول البعض أنه شيخٌ زائد عن الحاجة، ويرد آخرون: به تكتمل الصورة.

حكيم
المنذور لإخوته وبؤس قضاياهم، منذ سنوات خلت حمل رأسه وعصاه وجاب السبل بهذه الفجاج يهمس وصاياه في الطين والماء: لا تدعوا حقاً لكم.. أو تهلكوا دونه.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



"شيلة" معتقلي الأول من مايو خارج أسوار السجن بعد الإفراج عنهم بكفالة مالية انتظاراً لتحديد جلسة للنظر في "قضيتهم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخوة يوسف: هم مجموع معتقلي الكويتيين البدون في اعتصام الأول من أيار ٢٠١٢ .
*المطبق: سجن شديد تحت الأرض بناه أبو جعفر المنصور عندما خطط بغداد واستعمله ملوك بني العباس لاحتجاز المعارضين.
**كثير البهاء (جميع الأسماء حقيقية).

دومينيك دوفيلبان ومابعد الكولونيالية

 سكرت أوروبا واسكرتنا في 70 عاماً الماضية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية والتدريب والتشبيك مع جنيف ونيويورك ولاهاي. هذ...