Tuesday, November 19, 2013

كم نبلغ من "الإنسانية" ؟



لا أستطيع المبارزة بقيم الكائن البشري "السامية" وآثاره تشي به أينما التفت في ندوب الكوكب البائس. لا أستطيع - أنا ولا أي عاقل - أن نغضي عن آثار الجريمة البشرية عبر التاريخ، ولا أنكر ولا ينكر عارف غرائز الشهوة والطمع والحسد التي تنطف في حليبه الأول وتستظل كامنة ما غابت عنها فرصة الانعتاق. شخصياً، لا أثق بالصالحين والأتقياء ما داموا ضعفاء ولم يدركوا براثنهم بعد.

لكني، على الرغم من ذلك، لا أستطيع إشاحة الوجه عن غيوم بيضاء يشير إليها البعض بعبارة "القيم الإنسانية". نعم يا أصدقائي، الإنسانية - بنظري - هو وعي البشري بحقوقه وواجباته ونبله وكرامته، أيا كان مصدر هذه القيم العادلة؛ دينياً أم مادياً، وهي الضمانة الملاصقة لغريزة البقاء في ضمان استمرار البشرية حتى اليوم.

تاليا لن أغفل الجانب الاجتماعي في حركة الإنسان الحر لتحصيل حقوقه وحرياته الأساسية وتنظيم علاقاته بالأجهزة وبالآخر. أتساءل هنا: لولا غريزة حب البقاء الأصيلة في البشري هل أمكن الوصول إلى شرائع يصح أن يشار إليها بوصفها "عالمية" لتنظيم الحقوق الجوهرية والأساسية والطبيعية.. ولاحقا ما يعرف بـ "شرعة حقوق الإنسان"؟

ربما تبدو الدعوى غريبة نوعا ما إن اقتطعت من السياق التاريخي "للندم" الإنساني ووخز الضمير المستتر في مكان ما يطل برأسه حينا؛ ويستحيل على الاستدعاء أحيانا كثيرة. وإلا، فبماذا يمكن أن نبرر دعوة "قورش الكبير" إلى المروءة والفتوة والسماحة والكرم والصفح والعطاء والرحمة والرأفة بعد القضاء على إمبراطورية الكلدان؟ أو ثورة اخناتون على التمييز والحروب والاستعباد الذي اتسم به جل العهد الفرعوني؟ أو انقلاب الكلبيين والرواقيين على تقسيمات أرسطو العنصرية؟

أقيسُ، على ذلك، ما عرف بالشرعة العظمى "Magna Carta" وعريضة الحقوق ومذكرة "Habeas Corpus" وشرعة الحقوق الإنجليزية وإعلان الاستقلال الأميركي وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الذي تلا ثورة دامية. حتى بلغ الندم الدولي ذروته على حربين كونيتين مدمرتين، بالإجتماع على وثيقة تأريخية موحدة، تعتبر إعلان مبادئ جامعاً، عابر للديانات والفلسفات والثقافات المتباينة، ويستلهم كل خبرات التاريخ في ما عرف بـ "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 1948 أعلن الإنسان حاجته إلى حريات أساسية أربع: إطلاق حرية التعبير والعقيدة والتحرر من الخوف والجوع.

ما حرك في الرغبة إلى هذا الاستدراك التاريخي هو مشاغبة صديقي العزيز الشاعر سعد الياسري في مقاله المنشور على صفحة "آراء" أمس، الاثنين، ورغبة الاستدراك بأن ما نراه بأعيننا هو البشري، أما الإنسانية بمعناها القيمي العالي فغائبة غالبا، مكنونة بشكل واعٍ ضمن القلة من بني النوع البشري. لا المدنية والحضارة ولا التزام التدين ولا التحرر من قيده دليل حتمي على الإيمان بحقوق الإنسان، وإلا لضمنت الحضارة السائدة اليوم منع الحروب وانتهاك حقوق الشعوب الضعيفة، ولما كانت الجريمة تلبس عباءتها الدينية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوبا!

أسمع كثيراً، من أصدقاء آخرين ما يُشبه احتجاج الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ مما يجوز بأن يراه غيري كفراً بكل هذه الدعوات للإيمان بحتمية انتصار "الإنساني" على "البشري"، وغالباً لن يكون لدي الإجابة الشافية: إني أعلم ما لا تعلمون... جل ما أعرف هو أننا اليوم هنا، وهنا سنسير ونعمل حتى نقع، أو نبصر شيئاً من ضوءٍ في أعماق بعضنا على الأقل!


----------------------------------------------------------
نشرت في آراء بتاريخ:



دومينيك دوفيلبان ومابعد الكولونيالية

 سكرت أوروبا واسكرتنا في 70 عاماً الماضية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية والتدريب والتشبيك مع جنيف ونيويورك ولاهاي. هذ...